روى عن رسول الله صلي الله عليه وسلم أنه قال فيما معناه ..
" خير ما يغنم المرء من الدنيا الزوجة الصالحة .. إذا نظر اليها أسرته وإذا أقسم عليها أبرته .. وإن غاب عنها حفظته "
وقال الشاعر العربي القديم ..
نـِعم الاله على العباد كثيرةٌ ×× وأجلهن نجابة الاولاد
والقولان متممان لبعضهما البعض .. فالرسول عليه الصلاة والسلام وصف الزوجة الصالحة بخير النعم وجاء الشاعر ليبين أجلَها وهى نجابة الأولاد .. والمقصود بالنجابة هنا الانجاب وليس الذكاء أو التفوق كما يظن البعض .. فلفظ النجابة هنا مشتق من الانجاب ..
وإن كان الحديث قد ورد كاملا مكملا كطبيعة القول الشريف كله .. فان البيت الحكيم جاء قاصرا نوعا ما ..
فنجابة الأولاد لا تكون أجَل النعم إلا اذا كانت نجابة لأب معلم .. أب مربي وإلا انقلبت النعمة نقمة لا حدود لآثارها أبدا
ومعضلة تربية النشئ .. هى معضلة شبعت الأوراق من حبر المكتوب بشأنها عبر مختلف الثقافات عربية أو غربية .. دينية أو علمانية .. لكن المتأمل المحايد فى طرق تربية النشئ سيجد أن الفلسفة الاسلامية بلغت فى هذا المجال شأوا طرق حد الكمال .. فالتربية الاسلامية بنظراتها وإبداعيتها كانت ولا زالت هى الوسيلة المثلي لإخراج الطفل إلى طور الشباب عنصرا مكتمل البنية النفسية لا شائبة فيه .. لكن هذا إن تم تطبيقها كما يجب وبحذافيرها ..
لكن الشاهد أن أبناء الحضارة الاسلامية ذاتها لا يزالون أبعد ما يكون عن ثراء حضارتهم فى شتى المجالات وأخطرها تربية النشئ السليم والذى يعد بحق .. أهم رافد لبناء الحضارة الانسانية التى تعتمد أكثر ما تعتمد على العنصر البشري ..
فتعالوا بنا نتأمل ونقارن وندرس
لماذا تفوقت الفلسفة الاسلامية ؟
كان العيب الخطير الذى وقع فيه علماء النفس الغربيون فى دراساتهم لتربية النشئ هو ذات الخطأ الذى وقعوا فيه عندما حاولوا إدراك أسباب كارثة انفلات الشباب وعدم وضوح الرؤية لديهم عن أسباب هذا الانحلال الذى يعصف بالأجيال الجديدة .. وأخطر مظاهر هذا الانحلال عزوف الشباب نهائيا عن العلاقات المشروعة والرغبة الفطرية فى تكوين أسرة إضافة إلى ارتفاع نسبة الانتحار ـ لا سيما بفرنسا ـ إلى حد مفزع ..
هذا العيب الذى تناساه أو غفل عنه العلماء بالغرب هو الوازع الدينى .. فغياب الوازع الدينى ببساطة ينـزع عن الانسان طبيبا نفسيا جاهزا حيال الأزمات وبغيابه يغيب الفارق بين الفضيلة والرذيلة ويصبح المنطق المادى هو المسيطر على الحياة وهو منطق يدفع الانسان لتكييف حياته بأكملها وفقا للمتعة الحسية وفقط ..
وليبدو الأمر أكثر وضوحا ..
فان الغرب عندما أنشأ النظريات الفكرية المختلفة الخالية من أسباب الوازع الدينى لم يتمكن نهائيا من إقناع جمهور الشباب بأهمية التضامن الاجتماعى مثلا .. وكذلك بالنسبة لقيمة الوطن والدفاع عنه .. ومقدار الرضا والهمة لمعاونة الآخرين فى إطار مجتمع متماسك وأصبح العقد الاجتماعى الذى أنشأه الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو لتقنين العلاقة بين الدولة والجمهور قائما على عقد معروف البنود يعتمد على منطق الأخذ والمنح بمقابل متبادل .. فالدولة تعطى الخدمات ونظير ذلك تتلقي الضرائب .. وبهذا المنطق يصبح المواطن العادى غير مضطر إلى خدمة مجتمعه إلا بمقدار ما يستفيد من هذا المجتمع ..
وهو ما نتج عنه بعض المظاهر التى استغربها الأشارقة عند زيارتهم للبلاد الغربية وتمثلت فى انعدام الاهتمام المتبادل بين أفراد المجتمع على خلاف عاداتنا الشرقية وكذلك بالنسبة لدور المجتمع فى رعاية الأخلاق فهذا الدور انتفي تماما فى الثقافة الغربية القائمة على مفهوم خاطئ للحرية الشخصية فهناك لك مطلق الحق فى عمل أى شيئ بأى وجه تراه مهما كان شاذا ما دمت لا تؤذى أحدا بشكل مباشر .. أيضا هناك القانون الفرنسي الذى يحاكم الزوج الشرعى بتهمة الاغتصاب إذا طلب زوجته رغما عنها فى نفس الوقت الذى يسبغ فيه نفس القانون حماية كاملة للعلاقات غير الشرعية طالما تمت بإرادة متفقة بين الطرفين
كل تلك المظاهر التى لفتت نظر العديد من مهاجرى المشرق فى فترة البعثات الشهيرة وأعجبت بعضهم تلك الممارسات الحرة كما رأوها للأسف لأن كل منهم نظر إلى مفهوم تلك الحرية من ناحية أنها حق له دون أن يتخيل نفسه فى موقف المؤدى والمعتدى عليه إذا مورست ضده هذه الحرية .. نظر إلى المميزات ولم يسأل عن المقابل .. وذلك هو جوهر التفوق فى نظرية الحق الاسلامى فقبل أن تسأل عن حقك سل عن واجبك أولا ..
فكان جديرا بمن أعجبه التسيب الغربي فى العلاقات الاجتماعية أن يذكَر نفسه بأن هذا الأمر قابل للحدوث مع أخته أو زوجته وساعتها سيكون مطلوبا منه اتباع نفس المنطق ..
كل هذا كان بسبب غياب الوازع الدينى كما سبق القول وهو المعيار الرئيسي للفلسفة الاسلامية .
فالجزاء والمقابل فى الفلسفة الاسلامية لا يعتمد على المقابل الدنيوى فقط بل يمتد الجزاء الأكبر إلى الحياة الآخرة ولهذا كان طبيعيا أن تكون الأخلاق والمبادئ تحت رعاية المجتمع وموضع استنكار إذا فـُقدت وهذا وحده يمثل حارسا قويا لكل قيمة فمهما بلغ هوان الأخلاق فى بلادنا فسيظل مخالفها موضع استنكار .. ويظل حائزها موضع تقدير
إضافة إلى دور الوازع الدينى فى تنقية النفس من شوائب الأمراض النفسية التى ضربت أوربا منذ بداية عصر النهضة وخروج النظريات الحديثة على أيدى الفلاسفة الكبار .. وانحسار الوازع الدينى إلى أدنى حد نتيجة للحرب المعلنة على الكنيسة هناك بعد عهود الظلام التى ظلت مسيطرة على سائر أوربا بسبب تسلط رجال الدين
هم هنا خرجوا من خطأ الى خطيئة ..
فما عانوه من تسلط القساوسة دفعهم إلى إهمال هذا الجانب من منبته وتحول إنكار تسلط رجال الدين إلى إنكار للدين ذاته باعتباره حاكما لطباع وممارسات الانسان فى الحياة ..
وافتقاد المتعة الروحية هو الطريق الذهبي للأمراض النفسية الغير قابلة للعلاج التى تنتهى للانتحار بالرغم من عدم وجود الأسباب ظاهريا لهذا .. فالحياة هناك مترفة ومستوى الدخول متميز والنهضة المادية تمثل دافعا للتمسك بالحياة لا العزوف عنها ..
لكن السبب الحقيقي هو أن سيطرة النزعة المادية على الحياة هو أمر مدمر للرغبة فى الحياة لأن المتعة المادية مهما بلغت قوتها ودوامها فهى قابلة بطبيعتها للملل القاتل بعد فترة طالت أم قصرت .. وبعد أن يحصل الشاب على كل مظاهر المتعة فى سن ناشئة يبدأ البحث عن شيئ مختلف يثير فيه المتعة فيلجأ للشذوذ ثم تنقضي تلك المتعة بدورها فتـَسوَد أمامه الحياة لافتقاد الهدف بطبيعة الحال .. ومجرد التفكير فى الموت باعتباره نهاية حتمية يدفعه إلى استعجاله فينتحر ..
وهو الأمر الذى دعا مجموعة من الشباب الغربي فى منتصف القرن الماضي إلى إعلان التمرد بإنشاء حركة " الهيبز " والتى كانت فى بدايتها حركة أخلاقية داعية للعودة إلى الطبيعة ثم انحرف أعضاؤها إلى الجرائم الشاذة بأكثر مما كان عليه المجتمع الذى ثاروا عليه
وكان السبب أيضا غياب الوازع الدينى خلف تلك الحركة وهو ما أفقدها الهدف والوسيلة فيما بعد
وظلت الثقافة الاسلامية حاكمة لفترة طويلة على معظم أقطارها .. وما زالت أغلبها تحت مظلة التدين فى نظرتها للحياة والتى تعتمد على أن الجزاء الحقيقي لا يكون بالدنيا إضافة إلى اعتبار الدنيا محطة فى سفر طويل لا غاية ينقطع بعدها السبيل
والدين الاسلامى بكل روحانياته الغير مبررة كان ولا زال هو الحصن المتين من الأزمات النفسية التى عصفت بالغرب .. نظرا لأن حق المجتمع والوطن محفور داخل قلب كل مواطن دونما انتظار لمقابل .. فالدين هو الحاكم والمسيطر خلف القيمة ولذا رأينا الجزاء كله بالآخرة بالنسبة للعالم والمجاهد والشهيد .. الخ .. كما رأينا الأخلاق غير مدفوعة بنظرية العقد الاجتماعى بل رأينا الغيرة على القيمة متوافرة حتى بقلب الانحلال لمطابقتها لتعاليم الدين التى تطابق فى ذات الوقت صحيح الفطرة الانسانية ..
فالخشية من الله تفوق الخشية من القانون .. كما تفوق الخشية من استنكار المجتمع الخشية من اللوائح فى المجتمعات القروية بالذات
إضافة إلى جوانب المتعة النفسية التى يكفلها الدين الاسلامى وتكون خير معالج ومصد أمام الأزمات .. فتظل الأراضي المقدسة محل راحة عند طلب الرحيل إليها وتظل آيات القرءان الكريم دافعا غريبا للسمو الروحى دون سبب منطقي .. كما تظل سيطرة الأب وسيطرة المجتمع وسيطرة الحاكم " بمعنى الحكم فى المفهوم العرفي " أو كبير العائلة متوازنة مع العقيدة فتنشأ الأسرة على أساس متين لا كما هى بالغرب قائمة فقط على علاقات مصالح بين الأب والابن ينظمها القانون حتى يبلغ الابن أو البنت سن السادسة عشرة فيمتلك قراره بقوة القانون وتبدأ الكارثة ..
كيف نـُنشئ .. وكيف نـُربي ؟
ما كانت معاناة المجتمعات الاسلامية والعربية على وجه الخصوص بالعصر الحالى فى هذا الجانب إلا بسبب منفرد .. إهمال تربية النشئ الذى أنتج أجيالا مشوهه غير خاضعة للتربية السليمة فكان من الطبيعى أن تزداد هوة الأزمة بتحول تلك الأجيال إلى آباء فاقدى معايير التربية السليمة فكان أن ازداد الانهيار فى الأجيال التالية وإلى ما لا نهاية ..
وبدأت المأساة بفقدان سيطرة الأسرة .. ثم سيطرة المجتمع على النحو الذى نراه الآن ثم نهتف بالحسرة على الشباب الضائع عديم الفائدة دون أن ندرك أننا من أضاعوهم من البداية ..
والتربية الاسلامية علم فطرى إذا صح التعبير .. بمعنى أنه من الصعب تقنينه فى قوالب نظرية يتم تطبيقها ونظل فى انتظار النتائج .. لكن ما يحكمها ويمكن تقنينه هو المبادئ العامة التى يجب أن يراعيها كل مربي وتظل التفاصيل رهنا بظروف البيئة المحيطة ..
وسنبدأ بالتعرف أولا على ما هية التربية .. ثم نتعرف على مفهوم التربية الاسلامية وشروطها ومبادئها ؟
التربية ..
يقع مفهوم التربية فى موقع خاطئ لدى الأغلبية من الناس .. فقد درجنا على وصف الانسان غير المهذب بوصف عامى دارج " مش متربي " ..
وهو وصف خاطئ إلى أبعد حد .. فالتربية لا تعنى توافر الأخلاق والتهذيب ..
بل من الممكن أن نزعم أن الأخلاق والتهذيب من الممكن توافرها بمعزل كامل عن التربية السليمة !!..
فالتربية ببساطة هى إنشاء شخصية الفرد ليقوم بدوره الطبيعى فى المجتمع .. لذا فمن الممكن أن نصادف إنسانا مهذبا وعلى خلق لكنه خرج على المجتمع بشخصية مشوهه بناء على تربية خاطئة جعلته غير قادر على اتخاذ قراره بعد اعتياده التبعية وهى حالة شديدة الانتشار فى مجتمعاتنا والمتشدد منها على وجه الخصوص ..
فالأخلاق كعلم يجب غرسه بداية بالإقناع والإشباع لا بالرهبة والتخويف .. وهى كعلم يجب أن يخضع للاختبار .. وتـٌترك الإرادة حرة للإختيار والتصرف لأن المربي أو الأب لن يظل العمر كله حارسا على من يربيه .. ولا فائدة من تعليم لم يـُختبر حائزه ..
ونتيجة للإدراك الخاطئ من المربي لمفهوم التربية رأينا النماذج المنتشرة لشباب فى سن القرار وهى تروح وتجئ وفقا لتعليمات مسبقة وبلا قناعات تقريبا وهى هنا أقرب لنموذج الانسان الآلى منها الى العنصر البشري مع ملاحظة أننا نتحدث عن النموذج المثالى للابن من وجهة نظر آباء اليوم !!
والتربية لا يمكن ممارستها عبر نسيج واحد بل هى ثلاثة أنسجة لثلاثة مراحل عمرية مختلفة .. فتكون الأولى للمتعة دون محاذير والثانية للتعليم والثالثة للاختبار ثم يـُترك الشاب حرا بعدها للاختيار
كما أن التربية لا تكون مهمة الآباء فقط بل يشارك الأب فى تلك المهمة المعلمون فى دور التربية والعلم والمجتمع فى مرحلة ما من عمر الناشئ وهى المهمة التى انتهت من أرض الواقع لأن المفاهيم الخاطئة أصابت المعلمين كما أصابت الآباء ..
فعلى سبيل المثال من المتعارف عليه أن المعلمين ـ لا سيما فى مراحل التعليم الأولى ـ لابد أن يكونوا تربويين قبل التخصص العلمى وهى معلومة منتشرة بشكل تام على نحو يدفعنا للدهشة والذهول إذا شاهدنا عدم انطباقها على الواقع الفعلى بالرغم من أن الوزارات المسئولة عن التعليم فى أغلب البلاد العربية تقدم لفظ التربية على التعليم فى مسمى الوزارة .. بغض النظر عن الفهم الخاطئ لدى بعض المسئولين الذين يتفاخرون بأن تقديم التربية على التعليم مفاده الأول تقديم الأخلاق والتهذيب على التعليم دونما إشارة إلى بناء الطالب تربويا وتأهيله وتكوين شخصيته ودون إدراك لحقيقة بسيطة هى أن الأخلاق لصيقة بالعلم فى كأس واحد بينما التربية علم مستقل بذاته
وتزداد الدهشة عمقا إذا عرفنا أن الكليات المسئولة عن إخراج المعلمين للمراحل المختلفة تقرر المناهج التربوية بكثرة كاثرة تكاد تفوق التخصص فى بعض الأحيان تأكيدا لنظرية أن المعلم لا يمكن أن يكون معلما إلا إذا كان تربويا .. ولو انتفي الجانب التربوى فالمعلم يتحول ساعتها إلى ملقن كما هو واقع بالفعل فى العصر الحالى
وخطورة الملقن تتمثل فى عنصرين
الأول ..
أنه يردد ما يـُلقي إليه من تكليف بغض النظر عن اقتناعه من عدمه ويكون التركيز منصبا على إخراج آلات ميكانيكية مهمتها العبور من اختبارات آخر العام ومعيار عبور الاختبارات أصبح هو الفارق بين تمييز معلم و آخر .. دون أن يدرك أولياء الأمور حقيقة مؤسفة هى أن أبنائهم ـ وإن تفوقوا بنتائج الاختبارات ـ فهم ليسوا بطلبة متفوقين علميا بل هم طلبة مدربون على فن إجابة واجتياز الاختبارات .. والفارق ضخم للغاية لو يدرك المغيبون !
فقد غاب عن أولياء الأمور أن المراحل الأولى من التعليم ليس هدفها إخراج العلماء بل الهدف الرئيسي إخراج التلاميذ ..
فمن غير المنطقي أن نهمل الهدف الرئيسي وهو تدريب النشئ على حسن استقبال المعلومة ومعرفة معنى الزمالة وقيمة الكتاب والثقافة واحترام المعلم كطريق موصل إلى دور العلم فى المراحل الجامعية ونركز على فهم وإدراك الطالب لمواد دراسية لا تعنى شيئا من القيمة العلمية لكونها مجالا للتدريب ولا يمكن أن تكون عنوانا لتفوق الطالب فيما بعد عند تلقيه العلم الحقيقي فى المراحل المتقدمة ..
ولبيان الأمر بمثال ..
فان مراكز التدريب للمستجدين من جنود القوات المسلحة " وهى فترة 45 يوما للجندى وستة أشهر لضابط الاحتياط فى النظام العسكري المصري " لا تكون تدريبا على القتال لا سيما فى الفترة الأولى بقدر ما تكون تدريبا على نظام التلقي وبمعنى أكثر وضوحا تكون تلك الفترة .. فترة إعداد الطالب أو المتدرب للقواعد العامة التى تحكم تلقيه لعلم وفن الحرب وبناء روحه المعنوية ومعنى سرية النشاط العسكري وهدف الدفاع عن الوطن .. وبعد ذلك تكون المراحل التالية هى مراحل تدريب الجندى على القتال الفعلى بعد تشريبه لفن تلقي الأوامر العسكرية ولكيفية التعامل مع زملائه وقائده بالميدان
ولذلك لا يكون الاهتمام منصبا على الإجادة بالنسبة للجندى أو الطالب فى مرحلة الاعداد بقدر ما يكون منصبا على حسن استيعابه لقواعد التعامل العسكري .. فالفشل فى إجادة الأعمال العسكرية أثناء التدريب يمكن إدراكه فيما بعد بمزيد من التعليم والتدريب بينما الفشل فى تلقي المبادئ العسكرية لا يمكن أن يـُنشئ جنديا من الأساس مهما كان تفوقه فى مجال إطلاق النار أو التعامل مع آليات الحرب
تلك هى الاجابة المنطقية للسؤال الذى عصف بالمجتمع المصري عندما تساءلوا عن هؤلاء الشباب الذين التحقوا بالجامعة بمجموع درجات فلكى إبان حقبة التسعينيات .. مجموع درجات لم يحصل عليه النوابغ فى تاريخ مصر .. فإذا بهم فى مراحل التعليم الجامعى تراجعوا وغالبيتهم أصبحت فى ركاب المتخلفين فالسبب واضح وهو أنهم طبقوا ما تدربوا عليه فى مراحل دراستهم الأولى والذى انحصر فى كيفية انتقاء النقاط الهامة من المنهج وحصر التفكير على السبيل الأكثر أمانا لنيل الشهادات وإهمال التسلسل والتدرج المرحلى للتعليم فما يتلقونه من معلومات ومقررات يلقون بها عن أذهانهم بمجرد دخولهم للمرحلة التالية وهكذا .. وهو الأمر الذى لا يصلح فى التعليم الجامعى الذى لا يعتمد على حساب الدرجات بل يعتمد على التقدير وهو المسمى الذى غفل عن مغزاه الكثيرون لأن تقدير طالب الجامعة يعنى نظرة الأستاذ الجامعى لمدى إدراك الطالب بغض النظر عن مطابقة إجاباته لما ورد بالمنهج بعكس النظام المدرسي الذى يعتمد على مطابقة إجابات التلميذ لما ورد بنموذج الاجابة المنشور أمام المصحح
الثانى ..
وهو الكارثة الحقيقية .. أن الملقن بطبيعته الغير مدركة للجانب التربوى لا يدرك بالطبع قيمة رسالة المعلم التى تعد أعظم رسالة فى حضارات الأمم فيتعامل معها كانها مصدر رزق وتكسب وهو معيار ينزع عن المدرس قدسية الرسالة التى يؤديها فيقوم بما يجنى له الكسب والتميز وهذا هو السبب الرئيسي فى الظاهرة المؤسفة التى نراها بين الطلبة ومدرسيهم فى الأيام الأخيرة من كل فصل أو عام دراسي حيث يكون التركيز منصبا على الاختبار القادم وما يمكن التركيز عليه وما يمكن إهماله من المنهج .. بل الأكثر فداحة من ذلك ظاهرة لمست تجربتها بنفسي بالقاهرة منذ سنوات قليلة عندما طالعت أوراق دراسية كتبها أحد مدرسي اللغة العربية واحتوت على نماذج مكتوبة لمقدمات نثرية تصلح كافتتاحية لأى موضوع تعبير بحيث يقوم الطالب بحفظها ووضعها كما هى بورقة الاجابة أيا ما كان الموضوع المطلوب من الطالب الكتابة فيه لاختبار قدرته على التعبير !!
وفداحة هذا الفعل أنه صدر عن من هو مأمون على تربية وتعليم الطلبة .. وبالطبع كان الوازع الذى حكم هذا المدرس هو رغبته فى تفادى كل طريق من الممكن أن يتسبب فى فقدان درجات بالنسبة لطلبته حتى لو كان غير قابل للتلقين كموضوعات التعبير